سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب، وقال النقاش نزلت في بني عبد الدار.
قال القاضي أبو محمد: ثم انسحبت على سواهم، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئاً الكلام {من يشأ الله يضلله} شرط وجوابه، وقوله: {في الظلمات} ينوب عن عمي، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس، والصراط الطريق الواضح.
وقوله تعالى: {قل أرأيتكم} الآية، ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكاً أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجؤون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة؟ بل تدعون الله الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد والأزمات؟ وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة {أرأيتكم} بألف مهموزة على الأصل، لأن الهمزة عين الفعل، وقرأ نافع بتخفيف الهمزة بين على عرف التخفيف وقياسه، وروي عنه أنه قرأها بألف ساكنة وحذف الهمزة، وهذا تخفيف على غير قياس، والكاف في أرأيتك زيداً و{أرأيتكم} ليست باسم وإنما هي مجردة للخطاب كما هي في ذلك، وأبصرك زيداً ونحوه، ويدل على ذلك أن رأيت بمعنى العلم، إنما تدخل على الابتداء والخبر، فالأول من مفعوليها هو الثاني بعينه، والكاف في أرأيتك زيداً ليست المفعول الثاني كقوله تعالى: {أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ} [الإسراء: 62] فإذا لم تكن اسمأً صح أنها مجردة للخطاب وإذا تجردت للخطاب صح أن التاء ليست للخطاب كما هي في أنت لأن علامتي خطاب لا تجمعان على كلمة كما لا تجتمع علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام فلما تجردت التاء من الخطاب وبقيت علامة الفاعل فقط استغني عن إظهار تغيير الجمع والتأنيث لظهور ذلك في الكاف وبقيت التاء على حد واحد في الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث وروي عن بعض بني كلاب أنه قال: أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة، فهذه الكاف صلة في الخطاب، و{أتاكم عذاب الله} معناه أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي خاف منها الهلاك، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك {فيكشف ما تدعون} لأن ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه، ويحتمل أن يراد ب {الساعة} في هذه الآية موت الإنسان، وقوله تعالى: {بل إياه تدعون} الآية، المعنى بل لا ملجأ لكم إلا لله، وأصنامكم مطرحة منسية، و{ما} بمعنى الذي تدعون إليه من أجله، ويصح أن تكون {ما} ظرفية، ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام، قال الزجّاج هو مثل
{وأسأل القرية} [يوسف: 82] والضمير في {إليه} ويحتمل أن يعود إلى الله تعالى بتقدير فيكشف ما تدعون إليه، و{إن شاء} استثناء لأن المحنة إذا أظلت عليهم فدعوا إليهم في كشفها وصرفها فهو لا إله إلا هو كاشف إن شاء ومصيب إن شاء لا يجب عليه شيء، وتقدم معنى {تنسون} و{إياه} اسم مضمر أُجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبداً، وقيل هو مبهم وليس بالقوي لأن الأسماء المبهمة مضمنة الإشارة إلى حاضر نحو ذاك وتلك هؤلاء، وإيا ليس فيه معنى الإشارة.


في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فكذبوا فأخذناهم، ومعناه لازمناهم وتابعناهم الشيء بعد الشيء، {البأساء} المصائب في الأموال، {والضراء} في الأبدان، هذا قول الأكثر، وقيل قد يوضع كل واحد بدل الآخر، ويؤدب الله تعالى عباده {بالبأساء والضراء} ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء في تفريق المال، والضراء في الحمل على البدن في جوع وعري، والترجي في لعل في هذا الموضع إنما هو على معتقد البشر لو رأى أحد ذلك لرجا تضرعهم بسببه، والتضرع التذلل والاستكانة، وفي المثل أن الحمى أضرعتني لك، ومعنى الآية توعد الكفار وضرب المثل لهم، و{لولا} تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى هلا، وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه، والمعنى إذ جاءهم أوائل البأس وعلاماته وهو تردد البأساء والضراء، و{قست} معناه صلبت وهي عبارة عن الكفر ونسب التزيين إلى الشيطان وقد قال تعالى في آية أخرى {كذلك زينا لكل أمة عملهم} [الأنعام: 108] لأن تسبب الشيطان ووسوسته تجلب حسن الفكر في قلوبهم، وذلك المجلوب الله يخلقه، فإن نسب إلى الله تعالى فبأنه خالقه وإلى الشيطان فبأنه مسببه.
وقوله تعالى:
{فلما نسوا} الآية، عبر عن الترك بالنسيان إذا بلغ وجوه الترك الذي يكون معه نسيان وزوال المتروك عن الذهن، وقرأ ابن عامر فيما روي عنه {فتّحنا} بتشديد التاء، و{كل شيء} معناه مما كان سد عليهم بالبأساء والضراء من النعم الدنياوية، فهو عموم معناه خصوص، و{فرحوا} معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضى الله عنهم، وهو استدرجهم من الله تعالى، وقد روي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله عبداً تدبر هذه الآية {حتى إذا فرحوا با أوتوا أخذناهم بغتة} وقال محمد بن النضير الحارثي: أمهل القوم عشرين سنة، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فذلك استدراج» ثم تلا {فلما نسوا} الآية كلها، و{أخذناهم}، وهو مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه، والمبلس الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا يحير جواباً لشدة ما نزل به من سوء الحال، وقوله تعالى: {فقطع دابر القوم} الآية، الدابر آخر الأمر الذي يدبره أي يأتي من خلفه، ومنه قول الشاعر [أمية بن أبي الصلت] [البسيط]
فَأُهلِكُوا بعذابٍ حصَّ دَابِرَهُمْ *** فما استطاعُوا لَهُ دَفْعاً ولا انْتَصَرُوا
وقول الآخر: [الطويل]
وَقَدْ زَعَمتْ علْيا بَغِيضٍ وَلَفُّها *** بَأني وَحِيدٌ قَدْ تَقَطَّع دابري
وهذه كناية عن استئصال شأفتهم ومحو آثارهم كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم وقرأ عكرمة {فقَطَع} بفتح القاف والطاء {دابرَ} بالنصب، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل الرسل وتلطف في الأخذ بالبأساء والضراء ليتضرع إليه فيرحم وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة، وذلك حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد يعقب هذه الأفعال، وبحمد الله ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقالة لا رب غيره.


هذا ابتداء احتجاج على الكفار، و{أخذ الله} معناه أذهبه وانتزعه بقدرته، ووحد السمع لأنه مصدر مفرد يدل على جمع، والضمير في {به} عائد على المأخوذ، وقيل على السمع، وقيل على الهدى الذي تضمنه المعنى، وقرأ الأعرج وغيره بهُ انظر بضم الهاء، ورواها المسيبي وأبو وجزة عن نافع، و{يصدقون} معناه يعرضون وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا ذَكَرْنَ حديثاً قُلْنَ أحْسَنَهُ *** وهنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُقَا
قال النقاش: في الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته هنا، ثم احتج لذلك بقوله: {إنما يستجيب الذين يسمعون} [الأنعام: 36] وبغير ذلك، والاستفهام في قوله: {من إله} معناه التوقيف، أي ليس ثمة إله سواه فما بال تعلقكم بالأصنام وتمسككم بها وفي لا تدفع ضرراً ولا تأتي بخير، وتصريف الآيات هو نصب العبر ومجيء آيات القرآن بالإنذار والاعذار والبشارة ونحوه وقوله تعالى: {قل أرأيتكم} الآية، وعيد وتهديد، و{بغتة} معناه لا يتقدم عندكم منها علم و{جهرة} معناه: تبدو لكم مخايلة ومبادية ثم تتوالى حتى تنزل، قال الحسن بن أبي الحسن: {بغتة} ليلاً و{جهرة} نهاراً، قال مجاهد: {بغتة} فجأة آمنين و{جهرة} وهم ينظرون، وقرأ ابن محيصن {هل يهلك} على بناء الفعل للفاعل، والمعنى هل تهلكون ألا أنتم لأن الظلم قد تبين في حيزكم، و{هل} ظاهرها الاستفهام ومعناها التسوية المضمنة للنفي ولا تكون التسوية بها إلا في النفي، وتكون بالألف في نفي وفي إيجاب، وقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين} الآية، المعنى إنما نرسل الأنبياء المخصوصين بالرسالة ليبشروا بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات ويتابعوا شذوذ كل متعسف متعمق، ثم وعد من سلك طريق البشارة فآمن وأصلح في امتثال الطاعات، وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله، وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه، وقال ابن زيد: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب، ذكره عنه الطبري مسنداً و{يمسهم} أي يباشرهم ويلصق بهم، وقرأ الحسن والأعمش {العذاب بما} بإدغام الباء في الباء، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش {يفسِقون} بكسر السين وهي لغة.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10